4955
بداية، من المهم أن يُعلم أن الله عزوجل قد أودع في النفس معنى يقتضي معرفته والاعتراف بكماله والافتقار إليه، وهذا ما نعبر عنه بالدلالة الفطرية على وجود الله، وتُعَدُّ هذه الدلالة كافية في حد ذاتها لإحداث حالة القناعة بوجود الله تعالى لأكثر الناس، إلا أنَّ الاكتفاء بها غير كاف في مقامات الجدل مع الملاحدة؛ لأنه قد يعرض للفطرة ما يعكر صفوها من وارادات الشبه والإشكالات؛ لذا لزمت الإشارة إلى بعض الدلائل العقلية المذكرة بالفطرة الأولى.
الأدلة العقلية على وجود الله:
بداية يمكن أن نقول أن كل شيء يدل على وجود الله تعالى، قال تعالى:
﴿ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ﴾
[الأنعام: 164] وهذه الدلالة العقلية لها عدة مظاهر منها:
1.
دلالة الخلق والإيجاد؛ فوجود الموجودات بعد أن كانت عدما يدل على وجود مسبب لها، وهذا الدليل مبني على أصلين: أن الموجودات مخلوقة، والثاني أن كل مخلوق لا بد له من خالق.[1] وأشهر الآيات القرآنية المتضمنة لهذه الدلالة العقلية: قوله تعالى:
﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾
[الطور:35]، حيث انطلقت الآية في تقرير هذه الحقيقة العقدية الكبرى من خلال حصر الاحتمالات الممكنة، وبيان امتناع كل قسمة، ليبقى الاحتمال الحق هو أن للإنسان خالقا خلقه.[2] فكل موجود له سبب وهذا السبب هو الله سبحانه وتعالى.
2. دليل العناية؛ ويراد بالعناية ما نشهده من عناية بالمخلوقات عموما وبالإنسان خصوصا، والذي ندركه أن هذه الموجودات موافقة للإنسان، وكذلك موافقة لبعضها البعض، وهذا لا يكون إلا من قبل فاعل قاصد مريد، وكل آيات الداعية إلى التفكر في خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض وغيرها وتسخيرها تدل على هذا الدليل.[3] فوجود العناية حسي مشاهد، ووجود الفاعل القاصد المريد نتيجة عقلية.
3. دليل
الإتقان والتقدير؛ فالإتقان والنظام والإحكام في هذا العالم مشاهد ومحسوس، قال
تعالى: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيءٍ﴾
[النمل:88]
فهذه الدقة والتقدير ما كان لها أن توجد دون صانع ومقدر سبحانه وتعالى،[4]
وهناك عدة مفاهيم علمية حديثة دالة على الإتقان والإحكام، منها:
أ. المفهوم الأول: المعايرة الدقيقة لهذا الكون: عند التأمل في الكون سنجد أن ثمة سننا وقوانين وثوابت معايرة ومضبوطة بشكل دقيق جدا من أجل أن توجد الحياة، بل إن بعضها مضبوط بشكل دقيق من أجل وجود الكون ذاته. وأن اختلال أي ثابت من هذه الثوابت عما هو عليه فإنه مؤذن بخراب عظيم. وهناك نماذج متعددة لظاهرة الضبط الدقيق نذكر بعضا منها على سبيل المثال: قوة الجاذبية، والقوة النووية القوية.
ب. المفهوم الثاني: التعقيد غير
القابل للتبسيط: والذي يقوم على فكرة أن الظواهر المركبة المعقدة التي تستدعي وجود
أجزاء تعمل معا بشكل متناغم لا بد أنها وجدت هكذا دفعة واحدة، إذ لو اختل منها جزء
لا ختل النظام بأكمله، وهو ما يكشف عن وجود صانع صنعها على هذه الهيئة المعقدة
المركبة المتناغمة.[5]
4. دليل التسخير والتدبير؛ فالكون كله يخضع لإرادة الله، فهو المدبر والمتصرف والمستعلي بقدرته وقوته وعظمته وجبروته فسبحانه وتعالى خلق الكون وذللـه ودبر الأمر ويسره.[6]
5. دليل التخصيص؛ والمراد بهذا الدليل أن كون العالم على هذا الوجه الذي نراه بهذه القوانين التي نعرف بعضها، وهذه الدقة المحددة التي نراها دليل على أن هناك من خصصها دون غيرها واختارها قصدا مع إمكانية غيرها، وقد ذكرت هذه الدلالة في القرآن كثيرا ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا﴾ [الفرقان:45][7]
الاعتراضات على الأدلة العقلية:
1. ليس كل سبب فلا بد له من مسبب: وهذا الاعتراض يسعى لإلغاء المعنى الضروري (لمبدأ السببية)، وإذا أمكن التشكيك بمبدأ السببية، وهو فطري ضروري = فبالإبمكان التشكيك في بقية المبادئ العقلية الضرورية؛ وإذا شككنا في بقية المبادئ العقلية فقد تعذر تحصيل المعرفة جملة، إذ العلوم النظرية إنما تتحصل من خلال ردها إلى علوم تنتهي إلى تلك المبادئ العقلية الضرورية، وبغيرها لا يمكن أن نتحصل على معرفة.
2. الكون أزلي وليس له بداية: وهذا الاعتراض محاولة لتقديم نماذج بديلة لنموذج الانفجار الكوني العظيم، وجميع هذه المحاولات لم تقم على حجج علمية، بل قصارى الأمر أنها مجرد فرضيات، وكثير من الفيزيائيين يرون عدم إمكانية البرهنة على صحة هذه النماذج أو حتى اختبارها.
3. لماذا التعجل؟ فالعلم سيكشف لنا عن السبب؛ ومنشأ هذا الاعتراض في الحقيقة مركب من تضييق لمدلول العلم من جهة، ومغالاة في هذا المفهوم من جهة أخرى. وليست المشكلة في إعطاء المجال المادي حقه، وإنما المشكلة هي في هذا التعاطي التحقيري مع الموارد المعرفية الأخرى. والحق أن لكل مجال معرفي أدواته ومصادره المعرفية، وبالتالي فمحاولة تعميم المنهج التجريبي الحسي ليكون مصدر المعرفة في كافة المجالات العلمية، واعتقاد أنه وحده الصالح لتقديم الإجابات على كافة التساؤلات إشكالية منهجية وعلمية حقيقية، تفضي بصاحبها ولا بد إلى مشكلات علمية متعددة. إن هذه المعارضة الإلحادية بالإحالة على مستقبل علمي مجهول هي في حقيقة الأمر نوع من الجهل الذي يتم ملؤه بإيمان مغيب بإمكانيات الكشف العلمي المستقبلي، ويمكن تسميته بـ (علم الفجوات) وهو نوع من التوسل بالمجهول لاستبعاد قول المخالف دون تقديم احتجاجات موضوعية لمبدأ الاستبعاد هذا.
4.
أن الكون حادث بلا سبب أصلا أو أنه هو بذاته سبب حدوثه: وهذا تنكر للمبادئ الفطرية، وهو أيضا تناقض إذ كيف يمكن للعقل أن يستوعب أن الكون حدث لا عن شيء، ثم يسعى بعد ذلك للتعرف على الأسباب التي تقف خلف الحوادث التي يراها، هل سيقتنع لو عجز عن معرفة السبب بأنه حدث لا عن سبب.[8]
وختامًا فإن جميع الدلالات العقلية تدل على وجود الله هي دلالات محكمة قطعية، وهذا الوجود مما تظافرت عليه الأدلة، وإن إنكار وجوده سفسطة يرفضها الواقع والحس والفطرةوالعقل والشرع والتاريخ.
------------------------
[1] انظر: الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، د. سعود العريفي، ص216.
[2] انظر: شموع النهار، عبد الله العجيري، ص95
[3] انظر: الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، د. سعود العريفي، ص226، وانظر: الكشف عن مناهج الأدلة، ابن رشد، ص118، 162
[4] انظر: الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، د. سعود العريفي، ص234.
[5] انظر: شموع النهار، عبد الله العجيري، 177.
[6] انظر: الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد، د. سعود العريفي، ص238.
[7] انظر: المصدر نفسه، ص241
[8] انظر: شموع النهار، عبد الله العجيري، ص121-145.